أخوية الأدب، أو ليه نكتب ونقرا أساسًا
- Youssef Rakha
- Mar 30
- 17 min read
حوار بين كريم محسن ويوسف رخا

ك:
أظن الموضوع بيبدأ معايا بإحساس أن مفيش شيء ملهم بيحصل حواليا، ده الشعور اللي أقدر أقول أنه مسيطر عليا في آخر سنوات بوضوح. فيه عَطلة أو دم متجلط. وده مش حكم قيمة على المشهد الأدبي ككل، لأن شبه مفيش مشهد أدبي أصلا. في كتب حلوة ومهمة بتطلع من وقت للتاني، لكن الحالة العامة هي تشظي وتشرذم عنيف جداً. والمحبط هو حالة الرضى عن التشظي ده، اللي هي مختلفة تماما عن الفردانية اللي ممكن تنتج شيء خلاق ومختلف، حتى لو كان بيكلم نفسه أحيانا، بالمعنى الأناني للكلمة. والتشظي هنا شيء رجعي فعلاً. اللي بيحصل أن الكُتاب بيشوفوا إنتاجهم الأدبي (بشكل مجرد) هو الأفق والغاية، أن في كتاب يطلع وخلاص. غصب عن كل حاجة. مش قادر أفصل ده عن المنطق اللي بيحرك الإنترنت: فرض الحضور من خلال "الإلحاح"، أنك تكتب تويت أو بوست أو تنزل صورة فالناس تفتكرك. لكن علاقة ده ايه بالواقع، باللحظة، بالسياق الاجتماعي والسياسي، علاقة ده ايه بالجماعة الأدبية (مش موجودة)، كل ده مش بيشغل البال، بلاقي معظم الكُتاب منهمكين في مشاريع، بس كله لتحصيل مجد شخصي أو مراكمة كتاب فوق الكتب على الرف، لكن قليل لما الاقي حد منشغل بعلاقة الكتاب ده ايه بيا (كقارئ هنا) في مصر في اللحظة دي؟ الموضوع بيولد جوايا شعور أن في حاجة مُحتضرة أو بتحتضر، وأن عشان حاجة جديدة تظهر محتاجة بُعد عن كل التشظي ده (طب مش كده بننتج نفس المشكلة؟).
ي:
الحاصل زي ما إنت بتقول فعلا: ما فيش مشهد أدبي ولا وسط ثقافي ولا حاجة، وأوقات بصراحة بيستفزني الكلام عن الكتابة بالطريقة دي. يعني مثلا لما يقول لك "وضع المرأة في المشهد الثقافي المصري"، هو فين المشهد الثقافي المصري ده عشان يبقى للمرأة وضع فيه؟ ممكن يكون جزء من اللي بنتكلم عنه هو غياب المساحة نفسها، يعني كونا ما عندناش آلية حركة على اتصال بالمجتمع زي الرأسمالية الليبرالية في الغرب أو الدولة المركزية في عصور سابقة. لإني متفق معاك تمامًا إن ما فيش مشاركة أو تفاعل حقيقي برة مساحة التحقق الفردي، وإن التحقق الفردي نفسه شيء لحظي ومعزول وكإنه صفارة شاردة في الفضاء الخارجي. يعني إذا كتابك مش بتتباع منه نسخ تغطي تكلفته ولا بيعمل تأثير محسوس من أي نوع برة دايرة الاحتفاء بيه على فيسبوك، إيه معنى الكلام عن إنه إنجاز أو مساهمة؟
زمان أتصور كان الكلام ده بيتقال في سياق نقدي أو موازي للنقد، يعني بالطيب أو بالردي بيكون فيه تصور عن تاريخ ومسار الكتابة وبعدين يجي كتاب جديد يتقري فيبقى فيه كلام عن إنه أضاف للتاريخ ده أو ساهم في تغيير محتمل للمسار أو لأ، ساعتها حتى لو ما فيش بيع أو تأثير في المجتمع فع الأقل فيه أدب. لكن الحقيقة إن يمكن من التسعينات الأدب بالمعنى ده بقى هامش رمادي مقصور على شِلل الدرجة التانية والتالتة. أما الاحتفاء بشلل الدرجة الأولى – على الإنترنت – فدايما عبارة عن كلام ما لوش سياق ولا فيه تقييم أو حتى توصيف مُنصف. وبيبقى واضح قوي إن اللي بيتكلم عن النص الفلاني ما قراش النص ده أصلا أو ما قراش في حياته غيره. هو مشغول باستعمال لغة "مثقفة" لمديحه وتعظيم اللي كتبه وخلاص، ومش شايف لا تاريخ ولا مسار حواليه. منتظر إيه بقى من الشخص "غير المثقف" اللي ممكن يكون مشغول بالقراية أو مستني الأدب يغير حاجة ف حياته غير إنه ييأس ويقرر إن دول شوية مدّعين ولاد كلب؟
أظن عشان يبقى فيه مجال أو مشهد لازم "الأديب" و"الناقد" و"المثقف" يرتقوا لمسئولياتهم ويحترموا دورهم شوية، فيقروا ويِخلِصوا لإحساسهم الصادق باللي قروه ويتخلوا عن الادعاء والتدليس في خطابهم ويتجاوزوا المصلحة (الشللية) في كلامهم. ويبدو لي إن ده فعلا اختيار أخلاقي وسؤال ضمير زيه زي المطروح في أي مجال شغل تاني في مصر. يعني يمكن الفكرة بس إن المجتمع – "الشعب" – بيعاني من الفساد عادي.
ومع ذلك موضوع التشرذم والتشظي له جانب تاني مرحلي أكتر هو اللي ممكن يكون شاغلك دلوقتي: إن الناس اللي بتكتب، حتى الناس اللي ممكن تكون حالّة جزء كبير من المشاكل دي برده مش عارفة تتلم على بعضها أو تلاقي المجتمع الصغير اللي يدعمها. أعتقد دي مشكلة قابلة للحل، وممكن حلها يكون بداية حل مشكلة "الفساد" في المجال كمان. أعتقد إنه ممكن تظهر مساحة للتلاقي والتفاعل بشكل موضوعي شوية لو الناس قدرت تطرح نموذج لتواصل واختلاط يكون أساسهم والهدف من وراهم فرحة ومتعة التفكير والقراية ومش فكرة "المجد الزائف" لأفراد بعينهم. أظن إننا لازم ولو جزئيًا نقاوم حالة الإنجاز الفردي بكل تجلياته السخيفة اللي بنشوفها، واللي من ضمنها استحالة التفاعل النقدي أو حتى الحوار. ليه؟ لإن الطريقة دي في التعامل مع الإبداع شرطها المديح المطلق اللي أوقات الناس بتقول عليه "تعريص" (للسبب ده برده ومش بالضرورة لإنه كذب مقصود)، أو في المقابل الرفض المطلق اللي هو مش حنقرا الشخص ده ولا حننتبه لشغله خالص. حننفيه برة القبيلة.
من ضمن الأسئلة اللي مهتم أطرحها هنا سؤال الآليات العملية واللوجستية اللي تسمح للناس إنها تلاقي بعض وتتفاعل مع شغل بعض وتدخل في حوارات وحتى صراعات فنية وفكرية وهي محافظة على الاحترام والمحبة والثقة ع المستوى الشخصي. يعني إزاي بدل الشلة يبقى فيه كوميونيتي وبدل صاحبي اللي بيعرصلي يبقى فيه قارئ بيحب شغلي ممكن هو نفسه في سياق تاني يكون كاتب برده بس مش بالضرورة يعرفني شخصيًا، وبدل فيسبوك ولايكاته يبقى فيه منصات أدبية ومساحات للنشر والقراية غايتها القراية فعلا مش الاحتفال بالمكتوب؟ أظن كل ده ممكن وضروري. لكن خلينا نرجع لكلامك قبل ما ندخل فيه.
ك:
الفكرة أن الخطاب الحقوقي في مصر لسه صامد ومكمل (على الفيسبوك) ولسه الطبقة الوسطى متشبعة بيه وشايفه أنه ممكن يحرر حد، مع أنه أكتر خطاب، بعيداً عن أنه بضان، هو جاهز تماماً، عطلان حقيقي وفارغ من الإمكانيات، يعني ساعات لما حد بيستخدمه في بوست، بقرا أول كلمتين وبكون عارف هيقول ايه بعدها. ساعات بلعب اللعبة دي مع نفسي فعلاً. ده اللي بيخلي سؤال "المرأة في المشهد الأدبي" بالنسبالي يُطرح بالطريقة العمومية دي، لأن الخطاب الحقوقي اللي مسيطر كأفق للكلام، من صفاته أنه بيعيش "حياة خاصة" بمعزل عن السياقات، وبما أن كُتابنا أغلبهم شايفين الأدب بلا سياقات، فالأسئلة بتُطرح في الفراغ. طبعا ده مش معناه أن أسئلة المرأة هامشية ومش مهمة أو أن مفيش قضايا نسائية حقيقية وضاغطة، لكن كلامي هنا عن أن التفكير محتاج يتموضع، عشان يكون له مردود وتأثير حقيقي، ويكون اشتباك فعلا، مش كلام جاهز بيتقال كأنه تخليص حق أو اعتراف لعموم الناس عشان الواحد يريح ضميره وخلاص.
حالة الاحتفاء بالكُتب كمان عجيبة شوية، لأنها بتقوم على غياب تام للنقد فعلا، لدرجة أن في ناشرين وكُتاب بيحذفوا ويبلكوا بعض لو حد انتقد كِتاب ليهم. محدش حاسس أن في حاجة ناقصة؟ وليه بقى النقد معناه إهانة لحد أو تقليل منه؟ بدل ما يكون معناه أن العملية الثقافية شغالة وبتطور وبتطمح تنتج الجديد والمختلف، وأن في مشهد أدبي فعلا ممكن يتكون بالطريقة دي، أن يكون في ممارسة بالاحتفاء والنقد والكلام المركب، الموضوع دلوقتي بيتحرك بين الاحتفاء أو النسيان، زي ما أنت بتقول بالظبط.
الفكرة أن سؤال "الجديد" مش مطروح تقريبا، لأنه عشان يُطرح محتاج مشهد متناقض ومحموم، والمشهد دلوقتي إيجابي وصائب تماما. في احتفاء بالإنتاج لأنه إنتاج، فإحنا بنروح الفرح نبارك ونشرب البيبسي وخلاص. الناس هتحتفي، وكتير منهم مش هيقروا. لكن سؤال القيمة وعلاقته بالواقع، إزاي نجدد ونخلي الوضع يتلعثم ويضطرب كله، عشان حاجة حية أكتر تظهر أو تستفز حد في عمقه، كل ده غايب.
شغلني بردو إزاي المشهد الأدبي (الافتراضي) على الفيسبوك هو "إعلان" فعلا، نفس الآلية تقريبا، هو مشهد لم يأتي بعد، لكننا بنعلن عنه، والناس مع الوقت بقت بتفترض أن هي دي القيمة. لأن القيمة بالضرورة بقت بتيجي في المرتبة الثانية وأحيانا مبتجيش أصلا، الإعلان و"الأداء" الأدبي في المقدمة دايما.
رجوعاً للتشظي، أنا مش بقلل من اللي حصل في مصر بعد ٢٠١٣، في بتر عنيف في المجتمع وإقصاء وحبس وهجرة، وتقطيع متسارع في النسيج العمراني وأزمات اقتصادية طاحنة، كل ده أثره مش هين أبدا، والناس لسه بتتعافى، لكن كمان فين المقاومة؟ اللي هي شرط من شروط الكتابة. هل الكُتاب خلاص راضيين أنهم يكونوا ضحايا، وعايزنا نقعد نمصمص شفايفنا عليهم؟ مش دي الهزيمة بعينها؟ ساعات بحس أن الهزيمة بتكون سهلة لدرجة ممتعة. الفكرة أنهم كمان، زي ما قولت في بداية كلامي، بيعيشوا حالة رضى عن الوضع، في استسلام تام لحالة الخصى المُسيطرة، وعندهم قناعة معرفش جايبينها منين، أن دوشة الاحتفاء هتخلق "مشهد ثقافي". احا فعلا. اللي هو كأنك بتعلي صوتك في الشقة ولما تسمع صدى الصوت تحس أنك مش لوحدك وأنك في حوار حقيقي مع حد. لأ وتصدق كمان أن الحوار شغال وله أثر وقادر يعمل تغيير.
أنا بس يا يوسف بفكر أنك أكيد عندك كلام كتير تقوله عن التسعينات، لكن على الأقل كان فيه "تسعينات"، لها سياقات ومناخ و"مشهد"، أنا دلوقتي حاسس أن الموت والخواء هو كل شيء. إحنا أبعد ما يمكن عن حراك ثقافي حقيقي ومؤثر، ويقدر يفتح مجال أوسع منه. وبعدين من بعد ٧ أكتوبر، اللي هي لسه حاضر، بما أن وإحنا بنتكلم الاحتلال رجع يدور آلة الإبادة من جديد، بقى الموت واقع أكتر من أي واقع، كأن الواحد عايش بجثة في بؤه والله. والكلام كله بيتحلل. بس إحنا هنا في مصر كأننا كنا مستعدين تماما للموت ده.
ي:
طيب هو بالنسبة للتسعينات، مقارنة بالألفينات لحد ٢٠١١ يعني، أعتقد الفرق الرئيسي إنّ ما كانش فيه قنوات للطموح الفردي زي كده. كانت مؤسسات الدولة المركزية لسه فيها الروح شوية – في الثقافة أقصد – حتى لو معنى كده إنك بتحاربها برده أو بتعبّر عن قرفك منها وتنادي بسقوطها. ما كانش فيه نشر ولا جوايز بالمعنى الحالي، ولا كان فيه إنترنت وتواصل اجتماعي طبعا. أتصور اللي كان مشغول بالكتابة كان مضطر يقرا ويكتب بإخلاص ويحاول يثبت نفسه من غير تخريمات ولا أوهام بالحجم الحاصل دلوقتي.
وأهم نتيجة لده كانت إن الناس فعلا بتجرب وتتجاوز على مستوى الكتابة وهما مش قلقانين ولا عندهم هاجس غير الإبداع نفسه وإزاي يعملوا حاجة جديدة فعلا. كان فيه جماعات وكان فيه "مشهد" حقيقي حتى لو فضل صغير ومقفول على روحه، والمفارقة إن المشهد كان حقيقي لإنه مش معترف بيه ولا داخل في خطابات من النوع اللي إنت بتتكلم عنه. أول ما بدأ النشاط الثقافي يتوصّل بخراطيم الدعم النيوليبرالي و"القيم الكونية" وهكذا، المشهد نفسه بدأ يتآكل ويضمحل لحد ما وصل للي هو عليه دلوقتي أو يعني صورة منه.
بعد ٢٠١١-٢٠١٣ في رأيي حصل حاجة مختلفة خلت الموضوع أسوأ كمان: الخطاب الحقوقي والحراك "الثوري" التحموا بآليات السوق المفتوح بشكل صريح ممكن لأول مرة، وبقى فيه إنكار لـ"القيمة" لصالح الربح، وبقى فيه انبطاح مجاني للموارد المادية على حساب التطلعات الفكرية والجمالية. ده فعلًا ما كانش حاصل بالصورة دي أبدًا قبل الثورة. بعد الثورة على طول زي ما يكون الأدب اتنسى وبقى الاهتمام كله على فكرة الحراك ودعاوى التغيير بينما اللي فاضل من المجتمع بيتسلم تسليم أهالي للإسلاميين بدعوى الديمقراطية والحرية والحقوق السياسية، وعلى ما الناس فاقت تاني – سنة ٢٠١٥ مثلًا – كانت حالة "النشر" اتمأسست وكل المساحات البديلة والهامشية اختفت سواء نتيجة تغيير في سياسة الدولة تجاه "المجتمع المدني" (اللي هو للأمانة عصابات نشاطها الأساسي هو تسليك الفندات بغض النظر عن الغايات والنتايج) أو نتيجة إن الناس نفسها ما بقاش معاها وقت ومجهود تشتغل مجانًا أو ما بقاش عندها طاقة تعمل الحاجة اللي بتحبها… يعني أظن فيه حاجة جوهرية تتقال عن تأثير الثورة القاتل – القاااتل – على النشاط الثقافي والأدبي المحلي.
الجانب التاني من قصة التسعينات، ويمكن ده سؤال أهم شوية من سؤال النشاط الأدبي في حد ذاته، إنه على قد ما كان فيه حاجة حلوة بتحصل جوة الثقافة، على قد ما المجتمع الواسع كان بيوصل للقعر بطرق كتير غير مسبوقة. علاء خالد مثلا حسب ما أنا فاهم اطرد من شغله كمهندس وبقى عاطل عن العمل لإنه ما كانش بيروح يصلي جماعة مع زمايله في الشركة، وده أبسط مثال للتحول اللي كمان عمل تراجع خرافي في مساحة حركة الستات في الفضاء العام وخلى أي كلام ممكن ما يعجبش الأصوليين يعرّض صاحبه للاغتيال حرفيا أو التشهير بطريقة تدمر حياته. يعني بقى فيه غير سلطة الدولة سلطة تانية موازية مطلوقة على المجتمع بتخرّب فيه، وفي حدود ما الدولة كانت بتواجه السلطة التانية دي اللي حصل إن الدولة نفسها بقت محافظة أكتر ومع عمليات الاغتيال والتفجير وما إلى ذلك بقى عند دراعاتها الأمنية مبرر أكبر وأكبر للتجاوز على العرف والقانون.
لفتني إنك بتشاور ع اللي السلطة السياسية عاملاه من بعد ٢٠١٣، وصحيح كلامك عن العمران والاقتصاد ومساحة الحريات السياسية طبعا لكن كمان وبمنتهى الأمانة لما تبص على تطور المجتمع من التسعينات لحد اللحظة اللي سقطت فيها الحواجز في ٢٠١١، لازم تسأل نفسك إيه بجد اللي كان مطروح غير تدخل "قمعي" يؤدي إلى انفراد بالقرار بغض النظر عن رأينا في القرار نفسه… بالذات وإنه بحلول ٢٠١٣ الانهيار كان بقى حاضر وقريب، الانهيار بمعنى ما تبقاش الحياة ممكنة ولا يكون فيه مجتمع من أي نوع، مش بالمعنى المجازي اللي ممكن نوصف بيه وضع مش عاجبنا يعني. أكتر ناس أنا شخصيا توقعت إنهم يقدروا يستوعبوا خطورة الانهيار ده وضعف الرؤى وغياب الاحتمالات ويعترفوا بالحاجات دي على أمل التعامل معاها – وأكتر ناس أحبطوني في السياق – هما الكتاب والمثقفين.
(يعني شيء محير فعلا بالنسبالي في خطاب الربيع العربي – واللي هو في معظم الحالات الخطاب الرسمي للوسط الثقافي كمان – إنك تبقى ممتعض من نسخة قائمة للنظام العالمي النيوليبرالي زي مبارك أو السيسي فتتكلم وكإن البديل المفترض اللي إنت زعلان عليه اللي هو حكم الإخوان مثلًا مش نسخة تانية أخطر كتير من نفس النظام، وتبقى بتطرح المغالطة دي من غير ما تجيب سيرة خطورتها وكإنك ما حضرتش ظواهر من نوع أولاد أبو إسماعيل ومؤتمر نصرة سوريا وداعش فرع سينا وكل اللي حاصل طائفيًا وقبليًا في المنطقة من يوم ما الخميني رجع من فرنسا، وكإنك مش واعي باحتمال صعود الميليشيات والقتل على الهوية والتدخل المحتمل لآلة الحرب الغربية اللي إنت عاصرته وشفته بعينك مرة بعد مرة بعد مرة، مع إن البديل اللي إنت جاهز تخاطر بده كله عشانه في الحقيقة أسوأ بكتير من الحاصل عندك بغض النظر، ومع إنك مفروض تكون فاهم إنه مش حيتسمح بحاجة تقف في وش النظام العالمي اللي إنت معتمد عليه ماديًا. يعني هل بجد بجد كان فيه شيء مطروح على المدى المنظور غير اللي إحنا شايفينه في بلاد زي ليبيا واليمن والسودان ولبنان وفلسطين بغض النظر عن "سوريا والعراق"؟)
دي طبعًا مع إنها جزء من تفسير حالة الموات برده تُعتبر نقطة جانبية. السؤال اللي كنت بأحاول أطرحه حوالين التسعينات – واللي هي طبعا حصلت تحت حكم مبارك، يعني أثناء التحول النيوليبرالي نفسه – هو سؤال بقاء الثقافة والأدب في ضوء استغناء المجتمع الواسع عنهم بل ومحاربته ليهم؟ علما بإن حياة الكتابة هي في اتصالها بالقراء من غير الكتاب يعني في انتشارها برة دواير إنتاجها.
في التسعينات على قد ما كانت الدواير دي نشيطة وخلاقة على قد ما كان فيه عزل تام ليها جوة مجتمع رايح لمكان شعبوي وأبوي ودموي كمان (ممكن ما بانش إلى أي مدى لحد ما سقط رأس النظام واتفتح المجال العام على كل النوازع الانتحارية اللي شفناها). وبعد ظهور الموارد المالية والإنترنت ممكن يكون اتفك الحصار شوية لكن في المقابل الحاجات اتفرغت من طاقتها التجريبية والخلاقة وبقت إجرائية أكتر منها أي حاجة. وأظن ده مدخل مهم جدًا كمان لكل اللي بنتكلم فيه: ترويض الإبداع لصالح الربح (اللي هو في حالة الرواية مثلا بقى ذوق القراية الخليجي) أو تصدير الإحساس بالفشل والهزيمة قدام جحافل التفاهة الغازية، أو التشظي المميت اللي إنت بتوصفه.
بس زي ما إنت لاحظت المعارضة مستَعمرة من جانب الخطاب الحقوقي ده، واللي هو زي ما اتضح أظن في السنتين اللي فاتوا – من ساعة ما إسرائيل قررت تصفي "المقاومة" وتتمدد على جثث المدنيين، وكل "العالم الحر" وراها بالسلاح والفلوس وقمع الاحتجاج والتعتيم الإعلامي، يعني من ساعة ما شفنا الدول الديمقراطية بتاعت حقوق الإنسان بتتصرف بطريقة طبق الأصل من كل اللي ممكن يؤخَذ على الأنظمة القمعية اللي الربيع العربي قام عليها عندنا – المجازر والتعذيب والرقابة وقبل ده كله الطائفية القبلية اللي كل ده بيحصل في خدمتها: الفلسطيني في النهاية بيموت عشان هو عربي مسلم والإسرائيلي مسموحله يموته عشان هو يهودي غربي – والخطاب ده فقد مصداقيته بالكامل وبقى عامل زي كلام القوميين العرب في الدفاع عن حزب البعث. يعني اللي بيقولوه بيقولوه عشان ده أكل عيشهم عادي. وده معناه إننا لو حنفكر في دور سياسي للأدباء أو في دور للسياسة في الأدب فلازم نبتدي على مياه بيضا خالص يعني نتخلص مش بس من الأيديولوجيات الموروثة لكن كمان من بروتوكولات الليبرالية نفسها. أقصد إننا لازم نفكر من أول وجديد.
ك:
أنا حتى الآن شايف أن ٢٠١١ كانت فرصة أن في شيء راديكالي فعلا يحصل على مستوى اللغة والخيال والأخلاق، بدل الخطاب الحقوقي والشعارات الواسعة الشاملة، لكن بعد ما عدى الزمن الكافي، الواحد فعلا شاف قد ايه الكُتاب والمثقفين وقتها كان سقفهم واطي جداً، بشكل محبط. بشكل يخلي مفيش شيء الواحد قادر يستلهمه دلوقتي من ٢٠١١ غير قدرة الناس وقتها على رفض سلطة الواقع وأبديته. حتى لو ده في الآخر محصلش بالشكل الجذري المطلوب.
بس لو هنبدأ نفكر من أول وجديد فإحنا محتاجين نعيد بناء تصور عن أخوية للأدب، تصور بيتجاوز اللايك والشير والمجد الشخصي، وينشغل أكتر بالمعنى والقيمة الأدبية وعلاقة ده كله بالواقع والقارئ. محتاجين حماس كبير للأفكار. الحماس والهووس بالجديد والمختلف هما المخرج الحقيقي من الموت والتجلط، في ظل حالة الترسيخ لكل ما هو "عادي" و"متوازن"، والنظر بريبة للمشاعر المحمومة والمهووسة والمتطرفة (كأنها مرض) سواء في الحب أو الأدب أو الحياة. ومش قادر افصل الحالة دي عن خطاب الصحة النفسية الإيجابي على الإنترنت، اللي هو في جوهره خطاب دمج عميق في السيستم وإحباط لكل مظاهر الحياة. أخوية الأدب دي لازم تتجاوز التنافس والمعارك السُفلية الشخصية وثقافة الإلغاء، اللي هي كاشفة عن بؤس وانسداد حقيقي وانشغال بكل حاجة إلا الأدب وأسئلته. أنا ساعات بحس أن كل كاتب بقى كأن عنده بيزنيس صغير بيديره، من كتر ما الخيال مُستلب تماما من أخلاق ومنطق السوق: ربح وخسارة ومنافسين وشركاء… وآلة دعائية صوتها عالي وبتزن.
النقطة التانية، أن في كُتاب لما يحبوا يعبروا عن راديكاليتهم بيقولوا "كسم القارئ" باعتبار أن ده إثبات أن الكاتب حر كفاية وبيقول اللي هو عايزه، وبأمانة أنا شايف ده شيء تافه تماما. ومعرفش ليه بنفترض أن الانشغال بالقارئ معناها أنك بتبيع أو بتخون نفسك، مش أن ممارسة الكتابة تشترط بالضرورة وجود آخر، وأن "المتعة الشخصية" لو هي أفق الكتابة يبقى مفيش فرق كبير بين الكتابة والاستمناء، الاتنين بيحصلوا في غرف مغلقة. الكُتاب، مش عارف ليه، مش راضيين يعترفوا أن الكتابة ممكن تأثر وتغير في الوعي والشعور والخيال، وبالتالي تأثر في واقع القارئ. ليه الفن بقى مخصي ومعزول وجبان لهذا الحد؟ الكتابة بالنسبالهم شيء ميت فعلا واستمنائي، لإنه إما الكتابة بتنتهي عندهم أو بيكون أقصى طموحهم أن القارئ يتسلى بكتابهم وينساه. لدرجة أن في كُتاب بيسخروا فعلا من أي كلام عن قدرة الفن على التغيير والتأثير وبيعتبروها أوهام مراهقين، هيبطلوها مع الوقت والإحباط. الفن بيُستهلك، هو ده أفق الخيال. (مش ده خيال السوق بردو؟) وأنا، كقارئ هنا، معرفش ليه ههتم بناس أفقها وسقفها واطي كده ومش مدركين قيمة ومعنى الممارسة بتاعتهم. بأمانة يعني. ده هيضيفلي ايه؟ في طرق تسلية كتير دلوقتي أحلى من الكتب، أنا لو عايز اتسلى مش هروح افتح كتاب أبدا.
الأكيد أن إحنا محتاجين مساحات نشر للأدب، عشان المشهد يتبني، لأن شبه مفيش غير موقع أو اتنين بينشروا أدب دلوقتي، ومحتاجين نتحرر من أسر المنح والتمويل، ويكون القيمة الأدبية هي اللي بتشد الكُتاب أنهم ينشروا، حتى لو هيضحوا بالمقابل المادي أحياناً، وهي اللي بتحرك المسئولين عن مساحات النشر أنهم يكملوا شغل. ده مناخ هيكون مستفز ومحرض على الكتابة والقراءة. وأقرب مثال هو مدونة "ختم السلطان" بتاعتك يا يوسف، إزاي خلقت حواليها التفاف كبير ومؤثر رغم أنها كانت بدون مقابل مادي، بس المعنى كان هو المحرك. محتاجين نكرر التجارب دي حتى لو عمرها فضل كام سنة بعدين توقفت وتحولت لأرشيف (النقطة دي مهمة، عشان في مواقع ومدونات ظهرت لسنة أو اتنين، بعدين اختفت بكل المواد اللي عليها، وده شيء محبط أكتر).
ي:
فيه هنا موضوعين. الأولاني عن ٢٠١١ والكتابة، بس التاني وهو الأهم طرحك عن أخوية الأدب ومساحات النشر والوعي اللي يشجع عليه: ده كلام ضروري فعلًا، وأتمنى حوارنا ده ينتج عنه توصيات عملية قابلة للتنفيذ في المساحة اللي ممكن ده يحصل فيها. لكن خليني أبدأ بسؤال اللي حصل في ٢٠١١.
أتصور إن لو كان عندنا طليعة مثقفين حقيقية في مقابل شلل بتستعمل الثقافة لأغراض الترقي الفردي وشباب مهووس ببطولات خطابية ما تفرقش عن الشعارات الأيديولوجية بتاعت موروثنا السياسي حتى لو كانت دلوقتي بتظهر في صورة هاشتاجات، اللحظة دي كان فعلا ممكن تحصل بمنطق تاني وفي مساحة تانية ما تسمحش باستعمالها بالشكل الفج ده، وتسيب وراها مكتسبات حقيقية على المستوى الاجتماعي والفكري. مش تنتهي بلا رجعة بمجرد نهاية التجربة السياسية الكارثية اللي أنتجتها.
أنا بصراحة مش مسامح "الثورة" على اختياراتها وانحيازاتها، ولا مستعد أبرأ "الثوار" من شغلهم ضد كل سعي حقيقي للتحرر الاجتماعي لصالح أوهام الحريات السياسية الباين من أول لحظة إنها أوهام، مرة بدعوى اليسارية ومرة تانية بدعوى الديمقراطية (الليبرالية)، ولا من ذنب إقصائي أنا شخصيا بتهمة عبثية هي الإسلاموفوبيا مع إن شغلي كله في السؤال عن معنى الهوية الإسلامية. (مذهلة بالنسبالي القابلية على استيراد أي شعار زي ما هو لمجرد إنه اترفع في الغرب، من غير أي اعتبار لفرق السياق!) لكن زي ما بأقول لك ده ما يمنعش إني معاك شايف اللي حصل في الشارع في البداية كان شيء فارق وجميل وملهم. المشكلة إنه زي ما يكون حصل في وقت أو مكان مش مناسب أو في وسط الناس الغلط. بحيث بقت ميزته الكبرى إنه كشف حدود الممكن مش أكتر. ومش إن دي حاجة وحشة في حد ذاتها على فكرة.
مهم جدا جدا كلامك عن تأثير خطاب الصحة النفسية (والجسدية) وتسييد "الاتزان" و"الاعتدال" في مقابل الشغف والهوس، لكن اللي عايز أقوله إن ده جانب تاني من نفس الظاهرة اللي مخلية الخطاب الحقوقي يسود في السياسة والصوابية الغربية تتحكم في الأخلاق المحلية والرأسمالية تتجاوز على السياقات واختلافات الثقافة والتاريخ. كل دي آليات ليبرالية استعمارية (معولمة) في خدمة الرأسمالية المتأخرة، والمؤسف حقيقي إن أول ناس بتقع في فخها عندنا هما أرباب "اليسار" المتصورين إنهم بيتمردوا على اليمين أو بيقاوموا المظالم لما يبقوا بيدافعوا عن نوازع رجعية بحجة إن السلطة السياسية ضدها مثلا، أو بيدعموا الأدب "الملتزم" ويرفضوا اللغة "الركيكة". إحنا محتاجين تجاوز و"تعدي" في الحياة نفسها مش بس في الكتابة، ومحتاجين ناس عندها جرأة الاختلاف والمخاطرة لصالح العيشة وتغييرها ع المستوى الشخصي، اليومي، مش "أبطال" عندهم جنون عظمة أو تطرف طهراني مخليهم يعتنقوا مثاليات انتحارية ما بتقربش أصلا على أسئلة الوجود والقيمة وهي بتواجه سلطة سياسية عمرها ما حتأثر عليها ولا وارد إنها تأثر عليها قبل ما المجتمع نفسه يبقى فيه دفع للتأثير المرجو.
ليه الفن بقى مخصي ومعزول وجبان لهذا الحد؟ لإنه بقى منتج، وفي العالم العربي بقى منتج تحت شروط اقتصادية واجتماعية مجحفة لأي حاجة ممكن تقرب حتى على الأسئلة اللي بجد. تخيل إنك عشان تعمل كتابة "ناجحة" لازم تلتزم بكل المسلمات والثوابت المنصوص عليها صراحة أو بالعرف تحت رعاية الطبقة الوسطى في المجتمع المصري النهارده، وتخيل إنك لو عايز تنتشر برة مصر بالعربي يبقى كمان لازم تلتزم بالمسلمات والثوابت الأخلاقية بتاعت المجتمع الخليجي. هل دي شروط ممكن تنتج فن؟ هل الناس اللي بتكتب وبتبيع أو بتاخد جوايز تحت الشروط دي فاهمة إنها بتنتج فن؟ طبعا ممكن يكون فيه تعريفات للفن تتضمن المسلسلات التوعوية بتاعت مريم نعوم مثلا – مع إن حتى دي ممكن يكون فيها قلة حيا ومعاصي أكتر من المسموح برده – لكن مش دي فكرتي ولا فكرتك عن الفن أظن.
أنا عارف إننا طرحنا فكرة الطموح الفردي كمقابل لمشهد جماعي فعال، والطموح الفردي بصورته الحالية زيه زي النموذج الربحي فعلا جزء كبير قوي م المشكلة. لكن كمان خبرتي البسيطة مع "ختم السلطان" – اللي هو بدأ كمحاولة لتجاوز شرط الاتصال الشخصي في التعاون الأدبي ونشر النصوص، وكان أحد أسباب استمراره في تصوري إنه تجنب الفلوس خالص – فضلًا عن اختباري للمجال الأدبي قبل وبعد ٢٠١١ وقرايتي الشخصية للناس اللي اتعاملت معاهم أو تابعتهم (جزء من ده مطروح بصورة متخيلة في "التماسيح")... كل ده خلاني شايف إنك ما تقدرش ولا حتحب تحرم الناس كأفراد من طموحها، وإن المشكلة مش في الطموح الفردي في حد ذاته لكن في أشكال التعبير عنه وأحيانًا حتى في أشكال التضامن عليه.
لما تيجي مثلا في ندوة تتكلم ببساطة واختصار عن نقطة محددة ما عجبتكش في رواية جديدة للأديب الفلاني – وبعد ما تكون وضحت إنك حابب الكتاب ومدحت فيه ككل – فتلاقي الأديب العلاني وهو حاضر في نفس الندوة بيرفض كلامك بتشنج وتعالي ويبدأ يهرتل لمدة نص ساعة مثلا بمصطلحات ملعبكة وما لهاش أي لازمة بس عشان يأكد إن الكتاب ما فيهوش أي عيب، وإنت فاهم إن العلاني طبعًا بيعمل كده دعما للفلاني اللي إنت كمان جاي تدعمه، المشكلة هنا مش في إن الكُتاب يتآزروا ولا حتى في طموح الفلاني وتعريص العلاني عليه. المشكلة في التصور الباثولوجي عن معنى الدعم وفي سلطوية الخطاب "المثقف" اللي عازل الأدب عن مساحات تأثيره عشان بني آدم بيضان يقدر يستقوى بيه في لحظة زي دي…
الشغف ضرورة، وعلاقة الفن بالحياة شيء بديهي. بغض النظر عن سؤال الفن للفن يعني، أنا كمان طول عمري بأشوف إن ما فيش أي داعي تقرا لو مش وارد اللي بتقراه ده يغيرك أو يغير حياتك، واللي بأحسه كمان مع كتير قوي من أدباء جيلي اللي بينشروا كتاب أو أكتر كل سنة من غير ما يبقى فيه أي حاجة جديدة في اللي هما بيكتبوه، حتى لو كتابتهم كويسة يعني: ما فيش أي داعي تكتب لو ما فيش جواك حاجة اتغيرت وخلت الكتابة ضرورة، لو الكتابة مش طالعة من احتكاك حقيقي بالحياة ومعناها، احتكاك إنت نفسك عشته وحسيت بضرورة إنك تحوله لأدب. أعتقد ده كلام عملي جدا كمان في ضوء إنه العرض دايمًا أكتر من الطلب وفيه جبال وجبال من الكتب اللي تراكمت عبر السنين وما اتقرتش.
يعني الجديد والمختلف آه، مش عشان الاستعراض والموضة لكن لصالح التجاوز والتحول على كل المستويات، وإن الكتابة تكون طريقة لتغيير حياة الناس فعلا. مثلا من المبادئ اللي أنا اعتمدتها في ختم السلطان كمان إن ما يكونش فيه أي رقابة أو حجب من أي نوع، ومش بشكل نظري يعني فعلا كنت بأتعمد أنشر النصوص اللي فيها "تطاول" أو "خروج عن اللياقة" يعني عشان فيها ده (بشرط إنها تكون نصوص كويسة طبعا).
برده ممكن نكون متفقين على إن ما فيش مشهد أو سياق كلي مخلي الناس عارفة تتواصل، لكن في النهاية اللي بقيت حاسه من كلامنا نفسه وبدليل كلامنا كمان إن أخوية الأدب ممكنة وحاصلة ولو بطريقة مجتزأة ومتناثرة وعلى خلفية محبطة، ع الأقل بين الناس اللي قادرة تتعامل مع طموحها بروح كريمة، وتفهم إن التحقق معناه محدود وتافه في غياب مجال قوي ومتماسك يحصل جواه على أساس أخلاقي وجمالي مشترك، وتفهم إن المساهمة في خلق المجال ده جزء أساسي من أسباب التحقق. يعني باختصار الناس اللي متجاوزين فكرة إن المديح لازم يكون مديح مطلق أو النجاح معناه فرح بلدي والناس تيجي توجّب وتشتم اللي ما نقطش. ممكن ما هماش الأغلبية وممكن ما عندهمش اتصال دائم ببعض لكنهم موجودين أكيد، ولما بتجيلهم الفرصة بتكون أخويتهم حاصلة.
اللي مش موجود ولا حاصل هو آليات وقنوات تمكن الناس دي من الشغل بكثافة أكتر وتشجع الناس التانية على التعامل بمنطق بناء ومن ثم مع الوقت تولد مساحة مشتركة ليها أعراف وفيها حد أدنى من الارتقاء للمسئوليات اللي كنت بأكلمك عنه في الأول. القنوات دي يمكن شبه ختم السلطان لكن لازم تكون أكتر كتير من موقع واحد ولازم تكون قابلة للاستمرار أطول كتير وعندها طرق للإدارة الفعالة والاستقلال الفكري عشان الناس تتحرك من خلالها بصرف النظر عن المكسب المادي (ومش معنى كده طبعا إن المكسب المادي مش مهم أو ممكن نتجاهله، الحقيقة إن ده جزء أساسي من السبب في إن ختم السلطان بقى أرشيف، لكن ده سؤال تاني بيطرح مشاكل من نوع تاني ممكن مش هنا مجال نقاشها).
السؤال بقى يا بطل، ع المستوى العملي البحت ده ممكن يحصل إزاي؟ أنا مثلا متخيل إن ممكن يتكتب مانيفستو أو لايحة تطرح قواعد حقيقية للتعامل مع كل الأطراف. (مثلا: ما حدش حيدفع فلوس لناشر مقابل إصدار كتابه. أو: مش مسموح إنك تمدح في نص أدبي من غير ما تذكر عيب واحد فيه على الأقل. وهكذا.) ونخلي الناس توقع عليه فنبقى ع الأقل معروفين لبعض. لكن طبعًا أنا كبرت ع الكلام ده ومش حأستغرب لو حد أصغر مني استبوخه. لكن فكر إنت وقل لي إيه رأيك، مش بس في فكرة اللايحة لكن في الخطوات العملية يعني. مش لازم تقول لي رأيك هنا، أعتقد كلامنا هنا خلص، إنما ممكن تقول لي رأيك لما نتقابل عشان نشوف حنتصرف إزاي. ولا إنت حاسس إن لسه فيه كلام؟
كثير مبسوط إنه في مساحة للتعليق، حتى كنت بفكّر مع حالي إنه فيسبوك (دونا عن وسائل التواصل الثانية) مسخ فكرة التعليق، وخلّاها جزء من اللي وصفتوه بحواركم فوق: أداة للمدح المطلق، المفرغ من كلّ معنى إلّا الوقوف مع الصحاب. بحب بس أشارك شغلة صغيرة، لها علاقة بغياب المشهد في عمّان/الأردن، اللي هو يمكن أحلك من اللي حاصل في مصر، وهذا مش من باب المزايدة، لإنه يمكن النتيجة وحدة بالنهاية: الغياب هو نفسه الغياب، مع فارق وجود مادحين كثر في مصر، وغياب الكتابة نفسها عن الأردن، باستثناء من علّت الجوائز الخليجيّة من حضورهم وصوتهم، وهم بلا مبالغة أردأ من كتب في تاريخ هاي البلد القصير. مش معنى هذا الكلام اليأس تمامًا، لإنه مع التجربة أو محاولة التواصل، الواحد بكتشف إنّه في…